فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}.
اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه، وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية.
المسألة الأولى:
دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال: كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة، ومنهم من قال: كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات.
أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون، انفقوا على أنه يجب كونه حادثًا كائنًا بعد أن لم يكن.
وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه، وذلك أني قلت يومًا إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي، والأول: باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كانت حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيدًا ألبتة، والثاني: يوجب كونها حادثة، لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول، فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والثاني حادث، لأن كل ما كان وجود متأخرًا عن وجوده غيره فهو حادث، فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث.
إذا ثبت هذا فنقول للناس هاهنا مذهبان: الأول: أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى، وهو قول الكرامية.
الثاني: أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير، وهو قول المعتزلة.
أما القول الثاني: وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات، فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة.
وتلك الصفة قديمة أزلية.
والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام.
فقالت الأشعرية: إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا: وكما لا يتعذر رؤية ذاته، مع أن ذاته ليست جسمًا ولا عرضًا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفًا ولا صوتًا.
وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة، فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام ألبتة، فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول.
لأن قوله تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدًا على نفي الحكم عما عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضًا كلام الله تعالى.
قال: لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضًا فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز، وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لابد من ظهور هذا المعنى لغيره.
المسألة الثالثة:
قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه.
الأول: أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية، ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفًا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها، وحيث سألها؛ علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى.
قال القاضي: الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة: أحدها: ما قاله الحسن وغيره: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى، قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفًا بربه وبعدله وتوحيده، فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفًا على السمع.
وثانيها: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه، فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] فسأل موسى الرؤية لا لنفسه، فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه، وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم.
وثالثها: أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون، فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية.
ومنهم من يقول: بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته، وإن كانت من فعله، كما نقوله في معرفة أهل الآخرة، وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي.
ورابعها: المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي.
وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء، وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية.
قال أصحابنا أما الوجه الأول، فضعيف ويدل عليه وجوه: الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك، كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين.
الثاني: أن المعتزلة يدعون العلم الضروري، بأن كل ما كان مرئيًا، فإنه يجب أن يكون مقابلًا أو في حكم المقابل.
فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم.
فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيًا، يوجب تجويز كونه تعالى حاصلًا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة، فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافرًا، وذلك لا يقوله عاقل.
وإن كان الثاني فنقول: لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلًا أو في حكم المقابل علمًا بديهيًا ضروريًا، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلًا لموسى عليه السلام، لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية، ومن كان كذلك فهو مجنون، فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام، ما كان كامل العقل بل كان مجنونًا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام، ما كان عالمًا بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين، فكان القول به باطلًا والله أعلم.
وأما التأويل الثاني: وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه، فهو أيضًا فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى: أرهم ينظروا إليك، ولقال الله تعالى: لن يروني، فلما لم يكن كذلك، بطل هذا التأويل.
والثاني: أنه لو كان هذا السؤال طلبًا للمحال، لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138] منعهم عنه بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] والثالث: أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته، وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال، فأما أن لا يذكر شيئًا من تلك الدلائل ألبتة، مع أن ذكرها كان فرضًا مضيقًا، كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام، وأنه لا يجوز.
والرابع: أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية، إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام.
أو ما آمنوا بها، فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل، مجرد قول موسى عليه السلام، فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية، بل هذا قول افتريته على الله تعالى، فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ}.
وأما التأويل الثالث: فبعيد أيضًا ويدل عليه وجوه: الأول: أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمرًا أنظر إلى أمرك، ثم حذف المفعول والمضاف، إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا، وهو قوله: {أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143] فسوف تراني {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف.
الثاني: أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة.
والثالث: أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة.
ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول: أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود؟ ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد.
الرابع: أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده، لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك، فثبت أن هذا القول فاسد.
وأما التأويل الرابع وهو أن يقال: المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه، فهو أيضًا بعيد، لأنه لو كان المراد ذلك، لكان الواجب أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية.
علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة.
الحجة الثانية: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكل.
ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة، لقال له: لا تأكلها أي هذا مما يؤكل، ولكنك لا تأكله.
فلما قال تعالى: {لَن تَرَانِى} ولم يقل لا أرى، علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
الحجة الثالثة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية، أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة.
إنما قلنا: إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل، بدليل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه.
فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه.
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمرًا جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية، وذلك باطل.